القيامة المحيية

القيامة المحيية

الرب قد ملك والجمال لبس
لبس الرب القوة وتمنطق بها
لأنه ثبت المسكونة فلن تتزعزع
 
هكذا تُعَلِّمنا الكنيسة أن نستقبل اليوم الثامن في صلاة الغروب السابقة لأيام الآحاد. ففي كل أحد على مدار السنة ندخل ملكوت اليوم الثامن ذلك اليوم الذي لا يليه مساء حيث يملك الرب لألف سنة (اليوم عند الله كألف سنة بحساب البشر) وحيث “طوبى للمدعوين إلى عشاء عرس الخروف”(رؤيا 19: 9)ذلك الخروف نفسه الذي رآه يوحنا المعمدان حملا في الأردن قبل ثلاث سنوات ونصف من تقدمته على الصليب (يوحنا 1: 29 هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم). “مبارك ومقدس من له نصيب في القيامة الأولى. هؤلاء ليس للموت الثاني سلطان عليهم بل سيكونون كهنة للّه والمسيح وسيملكون معه ألف سنة”(رؤيا 20: 6).

القيامة الأولى هي خبرة شخصية في وسط خبرة الكنيسة المُحتفَّة حول الخروف القائم في عرشه وكأنه مذبوح (رؤيا 5: 6). إن لم نختبر هذه القيامة فنحن بعد أموات ينطبق علينا قول المسيح لأحد تلاميذه “دع الموتى يدفنون موتاهم”(متى 8: 22) ولا نستطيع أن نقول مع بولس الرسول “ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح. بالنعمة انتم مخلّصون. وأقامنا معه وأجلسنا معه في السماويات في المسيح يسوع”(أفسس 2: 5). في هذه الآية الأخيرة فعلان (أقامنا ، وأجلسنا) الفعل الأول ينطبق على القيامة الأولى والفعل الثاني ينطبق على القيامة الثانية:

ففعل أقامنا مرادف لفعل أحيانا الوارد في الآية السابقة وهو حاصل بالنعمة الفاعلة فينا الآن والتي تدخلنا إلى حالة القيامة الأولى التي ليس للموت الثاني سلطان عليها؛ بالضبط حسب كلام السيد لمرثا “وكل من كان حيّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد”(يوحنا 11: 26) وحسب كلامه أيضا في موضع آخر “الحق الحق أقول لكم انه تأتي ساعة وهي الآن حاضرة حين يسمع الأموات صوت ابن الله والسامعون يحيون”(يوحنا 5: 25). فالإحياء هي الإقامة الأولى وهي تحصل الآن. وهي اختيارية تحصل لمن يسمع من الاموات ويستجيب ويفتح قلبه للقارع. (رؤ 3: 20 هانذا واقف على الباب واقرع. ان سمع احد صوتي وفتح الباب ادخل اليه واتعشى معه وهو معي.)

أما الفعل الثاني فينطبق على القيامة الثانية أي قيامة الأجساد كما قام يسوع بجسده الممجد تماما وبجسد جديد. ويشير إلى ذلك بقوله “فانه تأتي ساعة فيها يسمع جميع (لم يعد لأحد خيار في امكانية عدم السماع) الذين في القبور صوته. فيخرج الذين فعلوا الصالحات إلى قيامة الحياة والذين عملوا السيِّئات إلى قيامة الدينونة.”(يوحنا 5: 29) 

فكيف ينطبق إذا فعل “أجلسنا” على القيامة الثانية هذه؟ الجواب هو في سر الاشتراك في سر الشكر بفعل تناولنا جسد المسيح ودمه: جسد المسيح المقام هو باكورة قيامتنا أي باكورة قيامة طبيعتنا البشرية وبتناولنا جسده نتحد به ونصبح في هذا الاتحاد جالسين معه وفيه في السماويات. “فيه” ضرورية جدا لأنها تشير إلى عرش المجد نفسه حسب قوله: “من يغلب فسأعطيه أن يجلس معي في عرشي كما غلبت أنا أيضا وجلست مع أبي في عرشه.”(رؤيا 3: 21) وهذا طبيعي جدا لأننا أصبحنا جزء من جسد المسيح السِرِّي الذي نثبت فيه بواسطة تناولنا أسراره الرهيبة المقدسة المحيية باستعداد ملائم.

خارج هذا الإطار الإفخارستي كل دعوة للتجدد الروحي وللحياة الجديدة مع المسيح وكل حديث وكل انتظار للحكم الألفي هو لغوٌ في الكلام لا يجدي نفعاً. هكذا يقول الإنجيل وهكذا علَّمت الكنيسة وهكذا عاش القديسون وعبروا الموت الثاني منتصرين راقدين بالرب ولكن قائمين حوله متشفعين بنا ونحن معهم كنيسة واحدة من مجاهدين ومن منتصرين، من قائمين بالقيامة الأولى سالكين بوصايا الرب ومن راقدين دون أن يمسهم الموت الثاني بسوء، منتظرين معاً قيامة الأجساد في القيامة الثانية يوم المجيء الثاني المجيد للرب القدوس.
 
العين تدمع والقلب يدمي على شعب قد أهمل “خلاصا هذا مقداره قد ابتدأ الرب بالتكلم به ثم تثبت لنا من الذين سمعوا شاهدا الله معهم بآيات وعجائب وقوات متنوعة ومواهب الروح القدس حسب إرادته”(عبرانيين 2: 3) أيقونات من سمعوا وعملوا وعلَّموا تزين كنائسنا وأخبارهم تملأ الدنيا ونادرا منا من يتشبه بهم في هذا الجيل. نعيِّد لقيامة السيد عيد الأعياد ونُهمل قيامتنا وقد يكون بعضنا غير مؤمن بها أو أقله لم يَختلِ بنفسه بعد ليعرف نفسه على حقيقتها. كلنا يؤجل هذا الاختلاء لأننا لا نريد أن نواجه الحقيقة ونرغب بتأجيل التوبة لما تتألق لنا مصالح زمنية ولكنها تافهة في جوهرها.

هذا لأننا لم نختبر معنى قول المنادي “ذوقوا وأنظروا ما أطيب الرب”. لا أحد ينادي لتذوق النبيذ المتحول دما محييا وحسب، بل الدعوة هي لتذوق القيامة الأولى مع الرب عبر الدم المسفوك لمغفرة الخطايا. لقد انتقص معنى التجديد وأختُزل بسبب اعتقادات بعض من دعوا أنفسهم متجددين وآمل أن لا تُختزَل معاني القيامة وأن لا تَنعزل عن خبرة الكنيسة المحتفة بأحيائها المجاهدين وبقديسيها المنتصرين حول من “تحف حوله مراتب الملائكة بحال غير منظور” (كما نرتل في التسبيح الشيروبيمي قبل دورة الكأس أثناء القداس الإلهي) ذلك الذي يطعمها جسده ويسقيها دمه لثبيتها فيه ويحييها بروحه القدوس الذي يقيم وينعش ويجدد ويشدد ويوطد ويغني لأن “الذي صنعنا لهذا عينه هو الله الذي أعطانا أيضا عربون الروح”(2كور 5: 5) ويوضح في مكان آخر أنه “أعطى عربون الروح في قلوبنا”(2 كور 1: 22) وهذا يحصل بالسماع والإيمان : “إذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم الذي فيه أيضا إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى لمدح مجده”(أفسس 1: 13-14).

كل هذا الزخم من المعاني مدعوما بالآيات مصدره حياة الكنيسة والتقليد الشريف الذي انبثق منه الكتاب المقدس هذا الذي لا يمكن قراءته وفهمه وشرحه وتفسيره خارج خبرة الكنيسة وتقليدها المعاش. هي وحدها تفهمه وهو وحده يصحح مسارها ليبقى مسارها متطابقا مع تقليدها الأولي الذي أوجد الكتاب بوحي الروح القدس، ذلك العربون الساكن فيها. والعربون هو جزء مما سيأتي كاملا ومن يملك العربون ملك الآتي حتما إلا إذا أهمله ورفضه وأعاده.
 
المسيح قام – حقا قام ! الجحيم قد تمرمرت – تمرمرت! الرب قد ملك – والجمال لبس! ما أجمل هذه التأكيدات التي نتعلمها من طقوسنا الليتورجية الإلهية المباركة. ويا ليتنا نغوص في معانيها لندرك بعضا من أبعادها: كيف يقول الرب لبيلاطس “مملكتي ليست من هذا العالم”(يوحنا 18: 36) بينما نؤكد نحن أن الرب قد ملك وأننا نعيش الآن في زمن الحكم الألفي؟ لقد علمنا الرب أن نطلب من الآب السماوي “ليأت ملكوتك” هل نطلب منه سرعة مجيء نهاية العالم؟ أم نطلب منه أن نعيش في ملكوته حيث مشيئته كما في السماء كذلك على الأرض. كيف يطلق السيد هذا التصريح الواضح الصريح “الحق أقول لكم إن من (tiv /tinev) القيام ههنا قوما لا يذوقون الموت حتى يروا ملكوت الله قد أتى بقوة”(مرقس 9: 1) الكلام لا يحتمل أي تأويل غير أن ملكوت الله قد أتى ورآه وعاش فيه بعض (tiv /tinev) ممن كانوا قائمين وسامعين لكلام الرب هذا حين تفوه به. 

ولماذا بعض وليس الكل؟ الجواب هو نفس الجواب الذي أعطاه الرب للفريسيين: “ولما سأله الفريسيون متى يأتي ملكوت الله أجابهم وقال لا يأتي ملكوت الله بمراقبة. ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك لان ها ملكوت الله داخلكم”(لوقا 17: 20-21) ولكنه كان أمام الفريسيين وغيرهم، شرط آخر: “إن كان احد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله”(يوحنا 3: 5). وهذا الكلام لا يهب الملكوت لكل من اعتمد بالماء والروح ولكنه يهب السلطان (يوحنا 1: 12 وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا…) (exousia) أي الحق والتأهيل والمقدرة الكامنة المشروطة التحقيق (potential energy)؛ لأن لدخول الملكوت شروط أخرى: “ملكوتُ السموات يُغصَبُ والغاصِبون يختطفونه.”(متى 11: 12) أي يؤخذ بالعنف! “وانه بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله”(أعمال 14: 22) أي بالجهاد! وأيضا “من لا يقبل ملكوت الله مثل ولد فلن يدخله”(مرقس 10: 15) وهذا يشير إلى الانكسار والتواضع والوداعة وهذا كله لا نكتسبه إلا بالجهاد وببكاء(دموع العيون تغسل النفس حسب خبرة القديس سمعان اللاهوتي الحديث) التوبة المر والمحيي كبكاء بطرس(لوقا 22: 63) وكبكاء داوود النبي(مزامير 6: 6 ؛ 43: 3). ذلك أن النعمة الإلهية لا تعمل وحدها بل تتطلب تجاوبا حراً وجديا من الإنسان. فدخول الملكوت السماوي يتم بالعمل المشترك (synergy) بين النعمة الإلهية والإنسان ومن خلال التمرس على حفظ وممارسة الوصايا الإلهية، لأن الرب قال “إن أحبني احد يحفظ كلامي ويحبه أبي واليه نأتي وعنده نصنع منزلا”(يوحنا 14: 21-23) عندئذ نكون أبناء الملكوت وفي القيامة الأولى.

 تأكيدا على ذلك وفهما منها لمضمون دعوة البنوة لله وشروطها من خلال الولادة الجديدة من جرن المعمودية المقدس وضعت الكنيسة في آخر افشين خدمة تقديس الماء هذا الكلام “فاظهر يا رب على هذا الماء وامنح المعتمد فيه ان يستحيل وذلك بخلعه الانسان العتيق الفاسد بشهوات الخديعة ويلبس الانسان الجديد المتجدد على صورة خالقه. حتى اذا غرس على شبه موتك بالمعمودية كان مشتركا في قيامتك ايضا. واذا حفظ موهبة روحك القدوس وانمى وديعة النعمة نال جائزة الدعوة العلوية (البنوة لله) وانضم الى عدد الابكار المكتوبين في السماء بكم يا يسوع المسيح ربنا والهنا.”

وكما أن ملكوت الله يمكن أن يتحقق في داخلنا ويقدسنا يستطيع ملكوت الشرير أي الجحيم أن يكون معششا في داخلنا ومنجسا لنا بحسب قول السيد: “لأنه من الداخل من قلوب الناس تخرج الأفكار الشريرة زنى فسق قتل سرقة طمع خبث مكر عهارة عين شريرة تجديف كبرياء جهل. جميع هذه الشرور تخرج من الداخل وتنجس الإنسان”(مرقس 7: 21-23) فإن لم نسمح للمسيح أن يَدخلَ إلى جحيم قلبنا ليُمَرْمِرَها وليُبيدَها وليُحِلَّ ملكوتَه فيه فلن تكون لنا قيامة معه ولن نستطيع أن نجيب بحق على إعلان المسيح قام – ب حقا قام. لأن القيامة ليست معرفة لحادثة تاريخية نشهد لها كشهود زور دون أن نراها. بل هي خبرة داخلية تتجاوز الإيمان ورؤية روحية بعيون روحية ترى المسيح القائم في نفوسنا وتشهد لحقيقته فينا، وحسب تعبير القديس سمعان اللاهوتي الحديث، تمكننا هذه الرؤية بحق أن نتلو غير كاذبين “إذ قد رأينا قيامة المسيح فلنسجد للرب القدوس البريء من الخطأ وحده…” وتأكيدا على أهميتها، توصي الخدمة الإلهية أن تتلى هذه الشهادة ثلاث مرات في خدمة الفصح.

فالكنيسة لا تطلب منا أن نشهد لما آمنا به تصديقا لسماع، “فالشياطين يؤمنون ويقشعرون”(يعقوب 2: 19) ولا أن نعلن ما آمنا به دون يقين الخبرة، فالجارية التي كان بها روح عرافة كانت تعلن للجميع أن بولس ورفاقه هم عبيد الله العلي الذين ينادون بطريق الخلاص ولكن إعلانها أضجر بولس (أعمال16: 16-18) لأنه غير مفيد لأحد لا للمعلِن ولا للمعلَن إليه لأنه دون خبرة الرؤية المحيية (روح العرافة هو روح شرير رافض للتوبة). فعلى الصعيد البشري لا يوجد محكمة تقبل شهادة من يؤمن بأمر أو من يعلم بطريقة غير مباشرة أمرا يستلزم الشهادة. فقط مشاهدة العيان هي المقبولة. والذي رأى هو وحده الذي يحق له أن يؤدي الشهادة. والإيمان المبني على هذه الخبرة هو دائما إيمان مُعْدي (أي يُنقل communicable, transmissible) ولذلك الخدمة الإلهية تدعونا للشهادة المبنية على الخبرة الروحية بتأكيدها على عبارة “إذ قد رأينا …” فليؤهلنا الرب الإله جميعا، برؤية القلب وخبرته، أن نشهد بحق: المسيح قام – حقا قام . 

    +الأب منصور عازار 

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

On Key

Related Posts

Eternal Life

Eternal Life for Orthodox Christians By Metropolitan Hierotheos of Nafpaktos and Agiou Vlasiou “Come, ye blessed of My Father, inherit the kingdom prepared for you…”

لماذا صلاة منسّى؟

لماذا صلاة منسّى؟ “صلاة منسّى” سِفرٌ من الكتاب المقدّس في نسخته السبعينيّة، تقرأها الكنيسة في ليتورجيّتها في عشيَات الصوم الأربعيني المقدّس ضمن صلاة النوم الكبرى.