هيكل أورشليم انطلاقا من بشارة القديس لوقا الإنجيلي
تبدأ بشارة القديس لوقا الإنجيلي من الهيكل وتنتهي في الهيكل. لقد بدأت مع كاهن متقدّم بالسن اسمه زكريا، ينتمي إلى رتبة كهنوتية معروفة خاصة بالهيكل، وزوجته كانت من سلالة هارون الذي كان أول خادم في الهيكل اليهودي الناموسي الاول لما كان بعد في خيمة الاشتراع. كان الكاهن وزوجته بارّين يعملان بالحق ويعيشان حياة خالية من العيب بلا لوم سالكين حسب وصايا وناموس الرّب.
زكريا أصبح صامتاً لا يستطيع الكلام، وزوجته أصبحت حبلى “وتحدّث بهذه الأمور جميعها في كلّ جبال اليهودية” (لوقا 1: 65)، وكل من سمعها حفظ هذه القصة في قلبه منتظراً الطفل ومتسائلاً، ماذا سيكون من أمر هذا الصبيّ. تنبأ زكريا عن ابنه أنّه سوف يُدعى بنبي العلي لأنّه يتقدّم أمام وجه الرّب ليعد طرقه ويعطي شعبه معرفة الخلاص بمغفرة خطاياهم (لوقا 1: 77).
الأشخاص الواجب عليهم الاستماع ليوحنا وقبول شهادته اولا هم الأقرب إلى الهيكل: الكهنة الفرّيسيون والصدّوقيون لأن النبوءة عنه تمّت في الهيكل وهم كانوا أوّل من علم بحدوثها ولكنهم ما أرادوا أن يؤمنوا بالطفل المدعو يوحنا (لوقا 7: 30) وفوق كل هذا أنكروا معرفتهم بما حدث لأبيه في الهيكل وكيف تمّت البشارة به، وأعلنوا للسيد المسيح صراحة أنّهم لا يعلمون معمودية يوحنا من أين! ولا يستطيعون القول إن كانت من السماء أم من الأرض (لوقا 20: 3-7).
بهذه الطريقة يجعل لوقا البشيرُ الهيكلَ الذي شهد البشارة بيوحنا كالشاهد الأول على الأكاذيب والأعمال الشريرة لأولئك الأقربين إلى دائرة الهيكل وهم (الفرّيسيون، الكتبة)(لوقا 7: 30)، (رئيس الكهنة، الصدوقيون والشيوخ)(لوقا 20: 1) و(القادة)(لوقا 24: 20). الفريسيون والكتبة برفضهم معمودية يوحنا قد رفضوا إرادة الله لهم ولخلاصهم. رئيس الكهنة والصدوقيون والشيوخ، كذبة بإنكارهم أن رسالة يوحنا أصلها من السماء. قاده الشعب انضموا إلى مؤامرة رؤساء الكهنة بتسليمهم الرب يسوع ليحكم عليه بالموت ويصلب.
ونرى من جهة أخرى، كيف أنّ يسوع المسيح قد قـُبل من الناس الذين ينتمون إلى دائرة الهيكل الحقيقية، أولهم سمعان الشيخ التقي البارّ، إذ كان مقاداً بالرّوح القدس إلى الهيكل شهد للطفل يسوع أنّه “خلاص”(لوقا 2: 30) الرب. وثانيهم النبـية حنّه العجوز الأرملة التي كانت “لا تفارق الهيكل عابدة باصوام وطلبات ليلا ونهارا. فهي في تلك الساعة وقفت تسبح الرب وتكلمت عنه مع جميع المنتظرين فداء في اورشليم”( لوقا 2: 37). فبالرغم من أن البشارة بالمسيح قد تمّت خارج دائرة (خدّام) الهيكل، إلاّ أنّهُ قد تمّ التعرّف عليه في الهيكل بواسطة الأبرار والأتقياء أبناء الهيكل الحقيقيين ممثّلين شعب الله بجنسيه بشخصي سمعان وحنة.
ثم يرينا لوقا البشير إنتماء المسيح بإخلاص للهيكل من خلال والديه بزيارة الهيكل كل موسم فصح (عيدالعبور). عندما كان عمره 12سنة، ضاع يسوع وعندما وُجد كان في الهيكل ليُعلِن لأمّه فجأة أن الهيكل هو بيت أبيه وأنّهُ عليه أن يهتم بما هو لأبيه في الهيكل.
يربط القديس لوقا أيضاً بدء مُهمة يوحنا المعمدان بالهيكل من خلال تسمية رؤساء كهنة الهيكل حنّان وقيافا. هذان الإثنان كان المتوقّع منهما أن يكونا حسّاسين لروح الله المتكلم من خلال يوحنا لأنه ابن دائرة الهيكل بإمتياز حيث أن البشارة به تمّت داخل قدس أقداس الهيكل. ولن نسمع عن هذين الإثنين ثانية باسميهما لأنهما أنتقصا من كرامة رجل الله زكريا وابنه يوحنا وسوف يُنقص لوقا البشير من أهميتهما بحيث يذكرهما فيما بعد فقط مع مجموعة رؤساء كهنة الهيكل وقادة الشعب بشكل عام.
الهيكل أيضاً هو شاهد على دم زكريا(متى 23: 35) الذي رُجم فيه بعد مؤامرة من رؤساء اليهودية لأنه تنبأ باسم الرب قائلاً لهم: “هكذا يقول الرّب، لماذا تتعدون وصايا الرب فلا تفلحون.لأنكم تركتم الرب قد ترككم”( 2 أخبار 24: 20) زكريا هذا يمثل كل أتقياء الرّب وأبراره من هابيل إلى المسيح إلى يعقوب أخي الرب. لقد أعاد يسوع على مسامع الرؤساء ما سبق أن اخبرهم به زكريا و ذلك من خلال مثل الكرَّامين الخونة “فطلب رؤساء الكهنة والكتبة أن يلقوا الأيادي عليه في تلك الساعة ولكنهم خافوا الشعب.لأنهم عرفوا انه قال هذا المثل عليهم” (لوقا 20: 19) وكان ذلك في الهيكل أيضا. لقد سبق الرب أن أخبر عن ما سوف ينتظره في هيكل أورشليم مشيرا إلى زكريا المرجوم “يا أورشليم يا أورشليم يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها …. هوذا بيتكم (الهيكل) يترك لكم خرابا”.
لقد أوشك أن يصبح بيت الصّلاة “مغارة لصوص”(لوقا 19: 46)، مكان فيه “كان رؤساء الكهنة والكتبة مع وجوه الشعب يطلبون أن يهلكوه” (لوقا 19: 47) بعد ان كان الهيكل المكان الآمن للمسيح، كالبيت، بسبب الجموع التي تعلقت به تستمع إليه (لوقا 19: 48). وسوف يذكِّرُ الربُ فيما بعد الذين سيلقون عليه القبض من رؤساء الكهنة وحرّاس الهيكل بمفارقة اللصوصية هذه: “كأنه على لص خرجتم بسيوف وعصي إذ كنت معكم كل يوم في الهيكل لم تمدوا عليّ الأيادي. ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة”.(لوقا 22: 52-53 )
يسوع الطفل الذي وجد نفسه “في البيت” (at home) في الهيكل عندما كان في الثانية عشرة من عمره والذي اضطر لترك ذلك المكان ليذهب مع والديه إلى الناصرة لأنه “كان خاضعاً لهما” (لوقا 2: 51)، ما أن كبر واصبح حراً نراه عائداً إلى الهيكل يعلّم فيه كلّ النهار(لوقا 21: 37). “وكان كلّ الشعب يبكّرون إليه في الهيكل ليسمعوه” (لوقا 21: 38).
يبدو كأن الهيكل قد وجد نفسه مملوءاً من حضور الله من خلال حضور يسوع فيه، “المسيح ابن الله ابن داوود”، داوود مؤسس أورشليم ومهندس الهيكل. و لوقا هو الوحيد من بين الإنجيليين الذي يربط بين تمزّق حجاب الهيكل وبين آلام السيد قبل تسليمه الروح (لوقا 23: 45) بينما متى ومرقس يجعلان انشقاق حجاب الهيكل بعد تسليم يسوع الروح على الصليب (متى 27: 51 ، مرقس 15: 38). تمزق حجاب الهيكل قبل موت المسيح يحمل معنىً إضافيا لمعنى إنشطاره بموت المخلص. ففي المعنى المشترَك انشطار الحجاب يشير إلى انتفاء الحاجز إلى قدس الأقداس إذ أصبح ” لنا أيها الإخوة ثقة بالدخول إلى الأقداس بدم يسوع طريقا كرّسه لنا حديثا حيّا بالحجاب أي جسده”(عبرانيين 10: 20) (وهي بالضبط الرسالة التي تقراء في الساعة التاسعة من ساعات الجمعة العظيمة). و جسد يسوع هو أيضا الهيكل(وحنا 2: 21 أما هو فكان يقول عن هيكل جسده) الذي احتجب الله فيه وهو “المسكن الأعظم والأكمل غير المصنوع بيد إي الذي ليس من هذه الخليقة” (عبرانيين 9: 11) الذي دخله يسوع كرئيس كهنة بدمه. فالحجاب المكسور هو إشارة إلى تحقق جسد المخلص المكسور(لوقا 22: 19) خبزا إلهيا على الصليب. ففوق الصليب اجتاحت القوى الإلهية ضعف جسد يسوع البشري الطائع حتى الموت موت الصليب، فرفعه (فيلبي 2: 9) الله وأعطاه اسما فوق كل اسم جاعلا الصليب عرشا للمحبة الإلهية، وأصبح جسد يسوع حاويا للقوى الإلهية و موزعا لها بعد أن كان حاجبا لها بموجب تدبير تجسده الخلاصي. وكان ذلك إتمام للدور الرمزي لحجاب قدس الأقداس ولدماء الأضاحي. أما المعنى الإضافي الذي أراده لوقا هو أن قلب الهيكل قد انشق مُعتصِراً ألماً بسبب الآم يسوع على الصليب وظهر هذا بانشقاق حجاب الهيكل إلى اثنين وفي نفس السياق الشمس أخفت أشعتها. و كأن الهيكل قد عبر عن ألمه بسبب هؤلاء الذين رفضوا سيد الهيكل الحقيقي لكي يبقوا هم سادة في هيكلهم المهجور.
بكلماتٍ أخرى لقد ترك الله الهيكل للأبد وعلامة تركه للهيكل واضحة بتمزّق حجاب الهيكل من أعلى إلى أسفل أي بيد الله من فوق. لقد أصبح الهيكل بعد ذلك بيت الذين هم عديمي البرّ جاحدي الأيمان والذين رفضوا خلاص الرّب الذي كان من الممكن أن يتحقّق فيهم من خلال مغفرة خطاياهم (لوقا 1: 77) وتحريرهم منها. لقد تنبأ الرب عن هجرته للهيكل “هوذا بيتكم (الذي كان بيتي بيت الصّلاة يدعى) يترك لكم خراباً” (لوقا 13: 35). خراب الهيكل الكامل ورد أيضا بوضوح في كلمات السيد للذين كانوا معجبين بزينة الهيكل و بحجارته وبالهدايا المخصصة لله التي كان يحويها “هذه التي ترونها ستأتي أيام لا يترك فيها حجر على حجر لا ينقض” (لوقا 21: 5-6). الدّمار أيضاً سوف يأتي على كل أورشليم. “فإنّه ستأتي أيام ويحيط بك أعداؤك بمترسةٍ ويحدّقون بك ويحاصرونك من كلّ جهة ويهدمونك وبنيك فيك ولا يتركون فيك حجراً على حجر، لأنّك لم تعرفي زمان افتقادك” (لوقا 19: 44). (لقد تحققت هذه النبوءة حرفيا حين هدم الرومان سنة 70 م الهيكل ونقبوا حجارة الأرض ايضا ليستخرجوا الذهب الذي ذاب بسبب الحريق ودخل تحت الصخور)
ويرينا لوقا البشير أن التلاميذ لم يفهموا تلك الأحداث والإشارات المتعلقة بالهيكل ولم تشر تصرفاتهم تجاه الهيكل على نية الخروج عن عبادة الهيكل. ويظهرهم في نهاية إنجيله أنهم كانوا “في كلّ حين في الهيكل يسبّحون ويباركون الرّب”. ثم يرينا إياهم بعد ذلك في أعمال الرسل مشتتين بيد الله من أجل الدعوة إلى التوبة وغفران الخطايا باسمه إلى جميع الأمم بدءاً من أورشليم والى كل المعمورة. ليبين بذلك أن خروجهم من الهيكل و من أورشليم لم يكن اثر اختراعهم دينا مسيحيا جديدا ضد ديانة الهيكل بل كان ذلك كله بيد الله وبتدبيره. وظهرت جماعة المؤمنين أي الكنيسة، جسدا سريا للمسيح ( 1 كور 12: 13 + روم 12: 5) القائم من بين الأموات وهيكلا جديدا حيا إلهيا أبديا جامعا للأحياء وللراقدين في رباط شركة الروح القدس.
لقد استشهد استيفانوس أول الشهداء المسيحيين بسبب الهيكل حيث قال لرؤساء الكهنة صراحة ً: “العلي لا يسكن في هياكل مصنوعات الأيادي” (اعمال 7: 48) وقد يلاحظ المتمعن في كتاب أعمال الرسل وسيرة الشهداء الأوائل، كيف أصبح الهيكل مكانا للمكائد ضد الرسل لأسرهم وأداة لقتلهم حيث أُلقي يعقوب أخو الرب من فوق الهيكل وأُسر بولس فيه. واضطُهد المسيحيون اليونانيون بسببه إلى أن هدم الله الهيكل و لم يبق منه حجر فوق حجر وذلك في سنة 70 على يد الرومان. ومن هنا كل فكرة مرتبطة بإعادة بناء الهيكل هي إنكار للمسيح و لكنيسته هيكل الله الحي (1 كور 3: 16) وللنار الإلهية الفائضة من القبر يوم سبت النور. والواضح أن النار المقدسة غير المصنوعة بالأيدي التي كانت تقبل القرابين في الهيكل انطفأت فيه و انتقلت من الهيكل إلى القبر الإلهي كما يشهد بذلك سبت النور. وانتهاء دور الهيكل هو أيضا تحقيق لوعد الرب للمرأة السامرية “صدقيني انه تأتي ساعة لا في هذا الجبل ولا في أورشليم تسجدون للآب… الساجدون الحقيقيون يسجدون للآب بالروح والحق. لان ألآب طالب مثل هؤلاء الساجدين له. الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا.” (يوحنا 4: 21-24)
و قد رفض الآباء كافة وجود أي إشارة في الكتاب المقدس حول أي دور عتيد لهيكل أورشليم. سماح الله بعودة اليهود إلى أورشليم و بإعادة بناء الهيكل و بقيام المسيح الدجال فيه هو تماما كسماحه بقيام مملكة الشيطان “بأجناد الشر الروحية في السماويات” (افسس 6: 12) وكسماحه بوضع العالم في الشرير(1يوحنا 5: 19). و من هنا كل فكر مسيحي متهود يرى يد الله بعودة اليهود إلى فلسطين و بمشروع بناء الهيكل العتيد* (التعليق اسفل) بدلا من أن يرى بذلك يد الشيطان، هو فكر بعيد عن أصالة فكر الكنيسة الحاملة لفكر الله. وإن ما نراه اليوم في العالم من حولنا يدور في هذا الفلك المضلـَّل الجاحد لجسد يسوع السري، هيكل الله الجديد والأبدي، والناكر لنور القبر المقدس الشاهد الدائم على القيامة المجيدة.
+الأب منصور عازار
نشر في مجلة “صوت الكنيسة” – مطرانية الروم الأرثوذكس في عمان – الأردن – العدد السادس 2004
* يعلمنا بولس الرسول أن الآيات هي بشكل عام لغير المؤمنين (مثل الالسن 1كور14: 22) والنار النازلة من السماء هي احدى الآيات الهامة لليهود والمتعلقة بالهيكل بشكل مباشر:
– لاويين 9: 23-24 : ودخل موسى وهرون الى خيمة الاجتماع ثم خرجا وباركا الشعب.فتراءى مجد الرب لكل الشعب وخرجت نار من عند الرب واحرقت على المذبح المحرقة والشحم.فرأى جميع الشعب وهتفوا وسقطوا على وجوههم. (هذه النار كانت الخميرة لنار المذبح والمحرقة ولأجل مذبح البخور وما كان الله يرضى بنار غريبة تقدم له.)
-لاويين:10: 1-2 : واخذ ابنا هرون ناداب وابيهو كل منهما مجمرته وجعلا فيهما نارا ووضعا عليها بخورا وقربا امام الرب نارا غريبة لم يامرهما بها. فخرجت نار من عند الرب واكلتهما فماتا امام الرب.
وكذلك استجاب الله بالنار لداوود عندما بنى مذبحا للرب ولسليمان ولإيليا النبي:
– اخبار الايام الأولى21: 26 : وبنى داود هناك مذبحا للرب واصعد محرقات وذبائح سلامة ودعا الرب فاجابه بنار من السماء على مذبح المحرقة .
– أخبار الإيام الثانية 7: 1-2 : ولما انتهى سليمان من الصلاة نزلت النار من السماء وأكلت المحرقة والذبائح وملأ مجد الرب البيت. ولم يستطع الكهنة ان يدخلوا بيت الرب لان مجد الرب ملأ بيت الرب.
– ملوك الأول 18: 24 + 38 : ثم تدعون باسم آلهتكم وانا ادعو باسم الرب.والاله الذي يجيب بنار فهو الله. + فسقطت نار الرب واكلت المحرقة والحطب والحجارة والتراب ولحست المياه التي في القناة.
* ولذلك وبرأيي الخاص ذكر يوحنا الانجيلي آية نزول النارعلى يد المسيح الدجال كاحدى الآيات المضلة التي ستحصل برأيي ايضا عند بناء الهيكل وتشييد مذبح المحرقة (رؤيا 13: 13 :ويصنع آيات عظيمة حتى انه يجعل نارا تنزل من السماء على الارض قدام الناس ويضل الساكنين على الارض بالآيات التي أعطي ان يصنعها امام الوحش).
…