العنصرة
لقد سبق أن نفخ يسوع في تلاميذه قائلا لهم اقبلوا الروح القدس وأعطاهم بذلك سلطانا أن يغفروا الخطايا (يوحنا20 :22). ولكنه أوصاهم أيضا أن يقيموا في مدينة أورشليم إلى أن يلبسوا قوة من الأعالي واعدا إياهم انهم سيُعمدَّون بالروح القدس (أعمال 1 : 5). فالرب انتقى تلاميذه و جعلهم رسلا له وثبتهم في الرسالة عندما نفخ فيهم قائلا لهم اقبلوا الروح القدس وأعطاهم بذلك سلطان الكهنوت الجديد الذي يغفرون به الخطايا.
كم واحد منا يتمنى لو كان يعيش في ذلك الزمان يتحدث مع يسوع وجها لوجه ويراه ناهضا من بين الأموات معتقدا أن ذلك قد يعطيه انتعاشا روحيا يمكـّنه أن يشهد ليسوع كما شهد التلاميذ له. ولكننا لا ننتبه إلى أمر أساسى وهو أن التلاميذ لم يستفيدوا كثيرا من رؤيتهم ليسوع حيا من بين الأموات ولم يُـفيدوا أحدا من رؤيتهم ليسوع؛ رغم انهم فرحوا كثيرا عندما رأوا الرب كما يقول يوحنا الإنجيلى (20:20). إلا أن رؤيتهم ليسوع حيا لم تكن كافية لتؤهلهم للشهادة له. علم يسوع انهم لن يستطيعوا أن يفعلوا شيئاً، لذلك طلب منهم وحذرهم ألا يغادروا أورشليم إلى أن يلبسوا قوة من الأعالي. أطاع التلاميذ يسوع واجتمعوا كلهم في علية صهيون مع والدة الإله وكانوا مواظبين على الصلاة معها لمدة عشرة أيام من بعد صعود الرب إلى السماء.
لم ينقص التلاميذ خبرة أو معرفة، فقد اختبروا الرب سنوات طوال وعرفوه عن كثب ولم تكن تنقصهم السلطة فقد أعطاهم كل سلطان، لم تنقصهم سيامة في الروح القدس، فالرب نفسه سامهم كهنة لا بل رؤساء كهنة حين نفخ فيهم الروح القدس فقد سامهم بالروح القدس عينه الذي يسام به كهنتـنا ورؤساء كهنتـنا اليوم. فمن الخطأ الاعتقاد أن الروح القدس لم يكن موجودا مع التلاميذ قبل العنصرة فالروح القدس موجود في كل مكان منذ البدء وكل أعمال يسوع وبشارته كان الروح القدس مشتركا فيها وكل الأعمال التي عملها التلاميذ حين أرسلهم يسوع أثناء بشارته إلى سائر القرى ليشفوا الناس ويقيموا الموتى ويطردوا الشياطين إنما كانت كلها بمؤازرة الروح القدس. مع أنهم كانوا متأكدين أن يسوع كان قد انتصر على الموت بموته إلا أن التلاميذ ظلوا خائفين، لم تكن لهم القوة لمواجهة اليهود والعالم. وبقوا كذلك إلى أن أتاهم الروح القدس بالقوة التي حررتهم من الخوف وجعلت منهم أناسا ملتهبين حماسا ونشاطا وبلاغة في الكلام وكان الروح يؤكد كلامهم بالأفعال.
فما الجديد الذي حدث إذا يوم العنصرة؟ في اليوم الخمسين بطلت مرة ثانية مقولة “لا جديد تحت الشمس”. ففي المرة الأولى ولد الإله متجسدا، ونتيجة لذلك في المرة الثانية ولدت خليقة بشرية جديدة باستقرار السِنة نار الروح القدس على التلاميذ. فإن الذي اشترك بطبيعتنا حين اتخذ جسدا أشركنا بطبيعته حين منحنا روحه القدوس بدون حساب. فأصبح التلاميذ خليقة جديدة لا تخاف الموت، خليقة ناهضة مع يسوع بمجد عظيم. نعم في العنصرة تتحقق قيامة الرب في حياة البشر فيصبحون الخليقة الجديدة.
ومن الضروري التنويه إلى أن الله المثلث الأقانيم لا يمكن الدنو أو الاشتراك بجوهره ولكنه يشركنا بقواه الإلهية الغير مخلوقة التي يتواجد فيها الله خارج جوهره. والروح القدس هو الذي يشركنا بالقوى الإلهية الغير المخلوقة ولذلك نقول انه يشركنا بطبيعة الله من حيث وجود الله في قواه خارج جوهره الغير المدرك أبدا.
لا نستطيع أن نفهم ما حصل في العنصرة من دون خبرة الآباء الذين اختبروا ويختبرون العنصرة في حياتهم كما اختبرها الرسل. فالقوى الإلهية التي أطلقها الرب بموته وقيامته لا تتحرر في الطبيعة البشرية إلا إذا أخلت الطبيعة البشرية ذاتها إلى النهاية إخلاءً تاما. و لذلك عندما أدرك التلاميذ أن الرب قد سبقهم إلى السماوات لم يعد العالم في نظرهم سوى حُطام . وبمعونة والدة الإله وإرشاداتها وصلواتها استطاعوا جميعا إن يموتوا (ا كور 4: 9) عن العالم واصبح العالم مصلوبا لهم واصبحوا مصلوبين للعالم (غلاطية 6: 14) حسب تعبير بولس الرسول. ولذلك اختبروا القيامة وولدوا من الروح القدس والنار ولم يعودوا خائفين من قتل الناس لهم لأن قيامة المخلص جعلت من الموت وَهْما ً يمكن التغلب عليه بالإيمان بيسوع المسيح.
فعندما “نودع ذواتنا وبعضنا بعضا و كل حياتنا للرب الإله” من كل قلبنا كما نسأل في صلواتنا الليتورجية لا بد أن تتحرر فينا القوى الإلهية ذاتها بنعمة الروح القدس فتتحقق العنصرة في حياتنا ونقوم تاركين خلفنا حطام الدنيا وشاخصين إلى رئيس الإيمان ومكمِّله يسوع المسيح. “فان كنتم وانتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه”(لوقا 11: 13).
لذلك تقيم الكنيسة يوم العنصرة صلاة السجدة التي مضمونها هلم يا اخوة لنخلي ذواتنا أمام الرب ولنـَمُت عن لذات العمر و لنسأل الآب معا أن يعطينا من السماء الروح القدس. فالروح يعطي كل واحد منا حاجته ويملأه كما تملأ الشمس كل زهرة في الحقل ضياءً دون أن ينقص شيء من ضيائها عن الزهرة المجاورة. فالكل يمتلئ من الروح كلٌ حسب استطاعته واستعداده. فهو يوزع من دون قسمة ويعطى كاملا لكل إنسان. بالروح القدس ترتفع القلوب إلى العلى، ويتقوى الضعفاء، ويغدو الناقصون كاملين. هو المنير لكل من تنقى من كل وصمة فيجعلهم روحانيين بالشركة معه فتفيض منهم النعمة على الآخرين. بالروح القدس تتم استعادة الحياة الفرودسية والملكوت الذي في داخل الإنسان وتتم العودة إلى البنوة الإلهية. ومنه تتولد الدالة بان ندعو الله أبانا وان نُدعى أبناءً للنور. عندما نتحول من حالة التلاميذ المصلين مع والدة الإله إلى حالة التلاميذ الممتـلئين فرحا والغير الخائفين لا من شيء ولا على شيء، عندما نمتلئ بغيرة مقدسة على كنيسة الرب، وعندما نصبح شهودا ليسوع؛ عند ذلك نتأكد أننا بدورنا قد ولدنا من فوق ولن يَـبخُـل علينا الروح بعدئذ بأية عطية أو موهبة. آمين.
+الأب منصور عازار