رسالة رعوية بمناسبة بدء الصوم الكبير المقدّس
المطران بولس- حلب
الصوم بفرحٍ وحرّية
ليس بالخبز وحده– يحيا الإنسان– بل بكلِّ كلمةٍ تخرج من فم الله (متى 4، 4)
في بداية العهد القديم وبداية العهد الجديد، يجرِّب الشيطانُ آدمَ بالطعام، فيأكل هذا ويسقط، ويجرِّبُ المسيحَ ليحوّلَ الحجرَ إلى خبزٍ ويُطعمَ الناس كثيراً، فيجيبه يسوع:”ليس بالخبز وحده– يحيا الإنسان– بل بكلِّ كلمةٍ تخرج من فم الله” (متى 4، 4). عبارة يسوع هذه تدرّجنا على ثلاثة مستويات، يسمّيها الآباءُ الدرجات: “تحت الطبيعية، والطبيعية، وما فوق الطبيعية”.
الحالة تحت الطبيعية، هي حالةٌ حيوانيةٌ شهوانية لا تليقُ بالإنسان. الحالة الطبيعية هي حالةُ الإنسان العادية، ليست سيئةً ولا فذّةً. أما الحالة فوق الطبيعية، فهي ترفع الإنسان إلى التشبّه بخالقه، عكس تحت الطبيعية التي تُحدِره للتشبّه بالحيوانات، وهي لا تُمتَلك عفواً إنما بجهادٍ ومحاولةٍ وبمؤازرة النعمة. في عبارة يسوع، تنطبق حالة العيش “بالخبز وحده” على الدرجة دون الطبيعية، وكلمة “يحيا الإنسان” على الدرجة الطبيعية، أما كلمة بل “بكلِّ كلمةٍ تخرج من فم الله” فتنطبق على الحالة الروحية فوق الطبيعية، وهذا بما يخصّ كلَّ الفضائل والأوضاع الحياتية.
المال، يصير دون الطبيعة عندما نركض وراء تحصيله ولو بعنا كلَّ شرفٍ أو حكمةٍ أو حقّ! أو عندما نستخدمه للتعالي والتسلّط، والبذخ واللهو غير المقبول. فتنطبق عليه كلماتُ يسوع: “أهوَنُ أن يدخلَ جملٌ من خِرم الإبرة من أن يدخل غنيٌّ ملكوتَ الله” (مت 19، 23- 24). ويكون في الحالة الطبيعية، عندما يحرّرنا من العوز ويؤمِّن لنا “خبزَ كفافِ يومنا”، أي حاجاتنا الضرورية. لكنه يصير روحياً عندما نعلو في استخدامه إلى الحالة فوق الطبيعية، عندما نحصّله نحن بشرفٍ “وبعرق الجبين” (تك2، 19)، ونؤمن أنَّ ليس لنا فيه ومنه أكثرُ من “كفاف يومنا”، والباقي هو مُلك الله ووديعةٌ في يدنا، يجب أن نعيدها لأصحابها من إخوتنا المحتاجين والفقراء. هنا يصير المال دافعَ محبةٍ وأداة َكمالٍ روحي.
الغضب، هو دون الطبيعة حين يستكين الإنسان للفجور والفظاظة؛ فيعامل الآخرين بوحشيةٍ دون تردّد. وهو طبيعيٌّ عندما يتحرّك نتيجة استفزازٍ ما أو خطأٍ موجَّهٍ إلينا، وهو فوق الطبيعة وروحيٌّ حين لا نغضب؛ ونردُّ على الاستفزاز بالصمت والتواضع، وحين لا نغضب إلا على الخطيئة والكسل فيدفعنا إلى الشعور بالآخر ومحبته وخدمته.
المحبة، هي دون الطبيعية عندما تكون غرائزيةً لإشباع الذات والأنا، وعندها مِن “الحبِّ ما قتل”! عندما يَسكر الإنسانُ بذاته على حساب كلِّ ما ومَنْ حولَه. والمحبة الطبيعيةُ لا فضلَ فيها، عندما نحبّ من يحبنا، ونقابل العينَ بالعين والسنَّ بالسن. والمحبة روحيةٌ وفوق طبيعية، عندما نحبُّ أعداءَنا ونحسن إلى مبغضينا ونُقرِض من لا ننتظر منهم جواباً. فأيُّ أجرٍ لنا إن أحببنا من يحبّنا وأحسنا إلى من يُحسن إلينا؟ محبةٌ كهذه لا تعطي روحاً ولا تغتصبُ ملكوتاً. المحبة الحقيقية ليست الأنانية، كما ليست هي المقايضة. المحبة فوق الطبيعية هي العطاء، هذه المحبة تتطلّب منا جهداً وانتباهاً وتضحياتٍ، لذلك تصير روحيةً وتُنبع فينا نبعَ روحٍ فيّاض.
الطعام كذلك، هو دون الطبيعة حين نصلُ فيه إلى حدّ الامتلاء والنهم. يتعرّض اليوم كثيرون للأمراض بسبب كثرة الأطعمة وليس من قلّتها. ويلجأ العديدون إلى “ريجيم” أقسى من الأصوام الكنسية درءاً لتبعات كثرة الأطعمة. ويتناول آخرون الحبوب والأدوية لتساعدهم على هضم ما زاد عن الحاجة. فيبدو الإنسانُ شهوانياً متعلّقاً حتى الجنون بأصناف الأطعمة، ويصير الطعام قطبَ الجذبِ عنده، ومرجعيةً لحياته. ويكون الطعام في حدود الطبيعة حين يخدم حياةَ الجسد وصحَّته فقط، حين نتناوله بترتيبٍ واعتدال. ولكنه يصير روحياً حين نتناوله في “صومٍ” أي في قليلٍ من الجوع.
هناك مسافاتٌ روحية بين الامتلاء حتى المرض وبين الشبع، وبين الجوع، والجوع حتى المرض والموت أحياناً. لم يوصِ السيد بجوعٍ وأصوامٍ حتى المرض. لكنّ المسافة بين الشبع فقط وبين الجوع حتى قبل المرض هي مسافةٌ واسعة جداً. فلطاما نهرع لتناول الكثير بمجرّد أن نجوع القليل. ولطالما صُمنا قليلاً ولم نَمُتْ ولم نمرض أبداً! هناك مسافةٌ شاسعةٌ بين الشبع وبين الجوع المعتدل، يمكن للمؤمن أن يتنعّم فيها بالصوم دون ضررٍ، لا بل بفائدةٍ روحية.
هناك مبدأان أساسيان للصوم، الأول هو الحرّية والثاني هو الفرح. لماذا أصوم؟ لأنه بمقدوري أن أجوع قليلاً دون ضررٍ جسديّ، فيصير هذا الصومُ طعاماً لذيذاً وتدريباً روحياً مفيداً.
على مدى العام نتناول الطعام في حالته الطبيعية (الشبع فقط)، ولكن في فتراتٍ محدّدة كما في زمن الصوم نتناول مع الطعام شيئاً من الجوع كغذاءٍ طوعيٍّ روحيّ. لماذا؟ لأننا نبحث به عن طعامٍ روحيّ ألذَّ وأطيب. الصوم كأسفار الكتاب يبتلعها الإنسان مُرةً في حلقه لكنها تصير في جوفه عذبةً. لذلك وأنا صائمٌ أنا فَرِحٌ، لأني بحرِّيتي اخترت الجوعَ متعةً روحية.
عندما أجوع طوعاً-أصوم- لا أُسارعُ إلى تناول الطعام كما في كلِّ مرةٍ، بل أبادرُ إلى تناول كلمة الله. أعوّض عن الحاجة إلى الشبع الجسديّ بإشباع العطش الروحي. يحرِّكني الجوعُ في الجسد إلى طلب ما تحيا به النفس: “الكلمة التي تخرج من فم الله”. هكذا تتحوّل متعتي من شبع الجسد في فقرٍ روحيّ إلى شبعٍ روحيٍّ في فقرٍ طوعيّ. لا نبدّل في الصوم الأطعمةَ وإنما “المتعَة”. نختار في الصوم متعةً-لذةً جديدة لا نجدها إلا بمرافقة الجوع القليل– أو الكثير!
يهبنا الصيامُ المتعة بـ”كلمة فمِ الله”، ويحرِّكنا إليها جوعُه العذب. الصيام رياضةٌ روحيةٌ بهجةٌ ولو في مظهرٍ من تقشُّفٍ، هو زهدٌ وليس عوزاً. “الخبز” وحده هي الدرجة الحيوانية، و”ليس بالخبز فقط” درجة الإنسان الطبيعي، و”كلمة الله” مع الصوم الجسديّ هي درجة الإنسان الروحيّ، الذي يشتري بالجوع التلذُّذَ بكلمة الله. الجوع هو شبعٌ روحيٌّ وضروريّ.
لذلك لا يفيد أن نمتنع عن لحمٍ وجبنٍ ونَشبع من أصناف الأطعمة الصيامية! ولا يفيد أبداً أن نصوم فرضاً وقهراً وكأننا نؤدّي واجباً في حين أننا نُوهَبُ نِعماً فوق نعمة.
ينقذنا الصوم إذاً من الحالة دون الطبيعية، التي علينا دوماً رفضها بقوةٍ وجرأةٍ وقساوة. ويرفعنا الصوم فوق الحالة الطبيعية التي نحياها في أزمنة الراحة والأيام العامّة. ويصلُ بنا الصوم إلى الحالة ما فوق الطبيعية، إلى الحالة الروحية حيث يُشبعنا الجوع من النِّعم السماوية.كم كان قلب داود بَهِجاً عندما رنّم: “سهوتُ عن أكل خبزي وكنت أمزج شرابي بدموعي” (مز6، 6)!
فلنتشجّع يا أحباء ولنَصُمْ، بحريةٍ وفرحٍ. كلمةُ الله قطبٌ جذّابٌ يطير بنا إليه الجوعُ العذب.