حول تقدمة السيد الى الهيكل
بعد ختانة المسيح في اليوم الثامن، انتظرت مريم يوم تطهيرها، وعند تمام الأربعين يومًا من الميلاد حملت الطفل المولود لتقديمه لله في الهيكل حسب الشريعة.
التقليد يقول أن كل ذكر فاتحة مستودع يدعى قدوسا للرب.
وذلك مبني على ما ورد في سفر الخروج 13
“قدِّس لي كل بكر كل فاتحة رحم من بني اسرائيل من الناس ومن البهائم انه لي… انك تقدم للرب كل فاتحة رحم وكل بكر من نتاج البهائم التي تكون لك. الذكور للرب… لذلك انا اذبح للرب الذكور من كل فاتحة رحم وافدي كل بكر من اولادي… ولكن كل بكر حمار تفديه بشاة. وان لم تفده فتكسر عنقه. وكل بكر انسان من اولادك تفديه.”
وجاء في اللاويين الفدية تكون شاة وان لم تنل يده كفاية لشاة فيأتي بذبيحة يمامتين او فرخي حمام الى الرب احدهما ذبيحة خطية والآخر محرقة.
كل امرأة كانت تأمل أن يكون مولودها هو القدوس ولذلك العقر كان عارا للنساء لأنه يفقدها امكانية تقديم قدوس لله.
كل تلك الشرائع كانت رموز تحققت بيسوع وحده. للعذراء وحدها قيل بالملاك: “القدّوس المولود منك يُدعى ابن الله” (لو 1: 35)
اليمام والحمام رمزت ايضا اليه: اليمامة المعروفة بكثرة ضوضائها كانت ترمز الى تبشيره الخلاصي وصوته الذي لم يصمت ولا يوم معلما للشعب ومنذرا المتعجرفين، والحمام رمز الى وداعته وهو القائل اني وديع ومتواضع القلب.
فادي البشرية يُفدى حسب الشريعة بيمامتين او بفرخي حمام، ولكن ذلك لن يوقفه عن ان يكون الذبيحة الوحيدة المقبولة لدى ابيه السماوي. وسمعان الشيخ اتى ليؤكد على هذا.
قدس الاقداس الحقيقية الحاملة كلمة الله والتابوت الحي التي حوت الكلمة الحي في احشائها تدخل الى الهيكل الحاوي على قدس الاقداس والذي في طيات تابوته الخشبي كلمة الله المنقوشة على الصخر.
الهيكل القديم يقتبل الهيكل الجديد بشكل طفل رضيع، وسمعان الشيخ اتى ليشهد ان جسد هذا الطفل سيهدم ليقوم ممجدا في اليوم الثالث. اذا سمعان الشيخ ينذهل مما رآه بإعلان الروح القدس.
من هو سمعان الشيخ؟
تتلخَّص قصَّة سمعان الشيخ كما وردت في التقليد الكنسي في أنه كان أحد الاثنين وسبعين شيخًا من اليهود الذين طلب منهم بطليموس الثاني ترجمة التوراة إلى اليونانيّة لإغناء مكتبته في الإسكندرية، والتي سُمِّيت بالترجمة السبعينيّة. قيل أنه أثناء ترجمة اشعياء 7: 14 ترجم سمعان كلمة “علما” العبرية الى “عذراء” ولما تشكك وأراد أن يستعيض عنها بكلمة “صبية او فتاة”، ظهر له ملاك الرب وأكّد له أنه لن يفارق الحياة حتى يرى مولود العذراء هذا. انتهت الترجمة الى السبعينية في العام 100 ق. م. فيكون عمر سمعان اقله 170 سنة ولذك كان شبعانا من هذه الحياة وكأنه مسجون منتظر أن يطلقه الله من جسده الفاني. لذلك جاء كلامه بما لا تجده على لسان من عمرهم ثمانون ولا تسعون عاما الذين يفرحون عندما يدعى لهم بطول العمر.
فبارك الله وقال: “الآن تطلق عبدك ايها السيد حسب قولك بسلام. لان عينيّ قد ابصرتا خلاصك الذي اعددته امام وجه جميع الشعوب. نور اعلان للأمم ومجدا لشعبك اسرائيل.” جملة غنية وافرة المعاني، اصبحت صلاتنا المحببة في كنيستنا الأرثوذكسية في كل صلاة غروب.
ماذا رأى سمعان بالروح القدس ليقول كل هذا؟
- طبعا انه لم ير طفلا من ضمن مجموعة من الأطفال التي بلغت الأربعين يومها يقدَّمون الى الهيكل كما في كل نهار.
- لقد رأى خلاصاً امام وجه جميع الشعوب: “جميع الشعوب” تعني الشعوب التي عبرت والحاضرة والتي ستأتي.
- رأى أن الخلاص الذي جاء بهذا الطفل لم يكن خلاصا لليهود من الأمم بل نور اعلان خلاص لكل الأمم ومجدا لشعب الله اسرائيل الجديد.
- رأى الصليب والفداء المحقق لكل الشعوب، رأى نزول المسيح الى الجحيم وخلاص المأسورين من الشعوب القديمة في ذلك السبت العظيم، وكأنه رأى نفسه معهم في الجحيم حين نزل اليه الرب بقدرته.
- كما رأى العذراء وسيف الحزن جائز في نفسها. ولذلك قال سمعان لمريم امه ها ان هذا قد وضع لسقوط وقيام كثيرين في اسرائيل ولعلامة تقاوم (او هدفا للمخالفة حسب ترجمة اخرى). وانت ايضا يجوز في نفسك سيف لتعلن افكار من قلوب كثيرة.
- اليس الصليب هو علامة المسيح التي لا تقهر اليست علامة الصليب جرح الشياطين المميت؟
- اليس الصليب عند الهالكين جهالة تقاوم وتكسر وتحتقر الى اليوم؟
- اليس الصليب عثرة لليهود (لينزل الآن عن الصليب لكي نؤمن به) وجهالة للأمم (لا احد يقوم من بين الأموات)
- اليس الصليب علامة انتصار لا تقاوم من عارفيها؟
- اليس المسيح المصلوب هو هدف كل مقاومة للبشارة الى اليوم؟
- اليس المسيح هو “حجر الزاويّة المختار الكريم الذي أقامه الآب في صهيون، لكي من يؤمن به لن يخزى” (رو 2: 9)، “وإذا سقط على غير المؤمن سحقه، وإن سقط غير المؤمن عليه يترضَّض” (لو 20: 18).
وماذا رأى سمعان ايضا ليضيف على نبؤة “سيجوز سيف في نفسك” : “لكي تكشف افكار عن قلوب كثيرة”.
ماذا قصد بتلك بالأفكار التي ستكشف وعن قلوب من؟
- الكهنة مع الكتبة والفرِّيسيِّين الذين يتظاهرون بحفظ الناموس والغيرة علي الشريعة، فها إنَّهم أمام الله وبشهادة القدِّيسة مريم تنفضح حقيقتهم الداخليّة، ويظهر رياءهم الباطل. فينفضحون بعيني بيلاطس “لأنه عرف ان رؤساء الكهنة كانوا قد اسلموه حسدا” (مر 15: 10)
- وبنفس الوقت يتجرأ يوسف الرامي الغني أن يدخل على بيلاطس ويطلب جسد يسوع ذاك الذي كان عنوانه ملك اليهود أي الملك الذي جعل نفسه إزاء القيصر وكانت عقوبة من اعترف بمرتكب تلك الجريمة كعقوبة فاعلها ومع ذلك لم يتقاعس لينكشف عما كان في قلبه من حب ووقار للسيد.
- نيقوديموس فهم ورأى بعينيه، من صلاة يسوع للمزمور 22 “الهي الهي لماذا تركتني” انه هو من تنبأ عنه داوود حين قال في نفس المزمور “ثقبوا يدي ورجلي وعلى لباسي اقترعوا” فتغلب على خوفه من اليهود وكشف عما في قلبه من حب واحترام ليسوع فاحضر الطيوب وتقدم مع يوسف الرامي وكفنا الجسد غير مستحين به وغير هائبين لا من اليهود ولا من ازلام القيصر.
- لص اليمين صرخ اذكرني يا رب متى اتيت في ملكوتك.
- اما لص اليسار فعثر من الصليب وأظهر ما في قلبه من تجديف على الملاء.
- بطرس نكره ولكنه كان يبكي بكاء مرا لأن الرب كان قد صلى من اجله لكي لا ينعدم الايمان من قلبه.
- التلاميذ تفرقوا.
- اما يوحنا، فبقي ملاصقا لمعلمه حتى الى دار رئيس الكهنة، وكانه يكشف عما في قلبه من الحب لذلك الذي كان يحبه، وبقي ايضا الى جانب مريم الى النهاية قرب الصليب.
وكأن كل هذا كان حاضرا لدى سمعان الشيخ عندما استدعاه الرب ليرى الخلاص الذي اعد منذ انشاء العالم.
فالمجد للذي كشف عن ذاته وعن يوم خلاصه العظيم لذلك الشيخ في مثل هذا اليوم، يوم دخوله (وليس ادخاله) الى الهيكل.
والمجد للذي جعل من السيف الذي جاز يوما في نفس العذراء كاشفا ابديا لما في قلوب البشر اجمعين. امين.
+الأب منصور عازار